مقدمة بقلم شربل بعيني

   مع بداية ستينيات القرن الماضي بدأت دائرة التجديد بالشعر العربي الفصيح تتسع، فقلت في نفسي، وأنا في بداياتي الشعرية: لماذا لا أجرّب التجديد أيضاً بالشعر العامي اللبناني، فبدأت أنشر القصائد التي بين أيديكم الآن في الصحف والمجلات البيروتية، وكم كانت دهشتي عظيمة عندما وجدت أن ترحيب رؤساء التحرير بها كان مشجعاً جداً، وخاصة حين نشرت جريدة النهار البيروتية في ملحقها الاسبوعي قصيدة "بدي غير هالكون ومش قادر" بطريقة ملفتة للنظر، كي لا أقول مدهشة.
   صحيح أن البعض لم يعجبه فحوى قصيدة ما، ولكن لم يتطرق أحد الى بنيانها الحديث بالانتقاد او بالاستهزاء. وأذكر عندما نشرت قصيدة "القدر كذاب، القدر مجرم" في ملحق جريدة "البيرق" البيروتية، كيف هاجمني الأب نعمة اللـه ك. دون أن يذكر اسم عائلته، وشكك بمسيحيتي، وأنني سأنشر الالحاد في مجتمعنا المؤمن عن طريق نشر مثل هذه القصائد "الملحدة" على حد تعبيره. واليكم مقاله في ملحق البيرق البيروتية، العدد 116، 13 تشرين الأول 1969:
"أعزائي،
   لقد قرأت مؤخّراً في ملحقكم الحبيب قصيدة لشربل بعيني بعنوان (القدر كذّاب، القدر مجرم)، وبعد مراجعتها عدّة مرّات والتمعّن بها، وجدتها تزخر بالإلحاد ونكران وجود اللـه، والتهجّم على القديسين الأبرار، وجعل الإنسان سيد نفسه.
   فمثلاً لو راجعنا عبارة (ركعت صلّي لإلـه ما عندو سما)، لوجدناها تنطوي على شكّ واضح وضوح الشمس بوجود اللـه تعالى. فالشاعر إنما يريد أن يبرهن أن إلهـه ليس له سماء، وكافّة الأديان تثبت أن اللـه في عرشه السماوي، وهذا التناقض يدعو إلى الشكّ. وحين يقول الشاعر:
أنا قدّيس
إصبعي بيضوي بليلات القدر
حملت الأرض
وبنفختي طفيت الشمس
وبروس صابيعي كمشت القمر
   إنما يريد بقوله هذا أن يظهر الإنسان بمظهر القديس على الأرض، يقدر على فعل كل شيء، حتى على تسيير الكون حسب إرادته، وهذا عكس ما تعلّمه وتبشّر به الأديان السماويّة.
   وأخيراً، يتجاسر ويقول شاعرنا العزيز:
الدني ما في لها نهايه
لها بدايه..
كذب..
نحنا بداية هالدني ونحنا النهايه.
   هنا الطامة الكبرى، هنا الإلحاد.. كيف تنشر جريدة البيرق الغراء مثل هذه القصيدة؟ أو بالأحرى كيف يكتب شربل بعيني مثل هذه القصيدة؟ ونحن الذين كنّا نقدّره ونعتقده عكس ما أظهرته لنا قصيدته الجوفاء.
   أين الإيمان؟ ولبنان معروف عنه إنه بلد الإيمان.. لا أدري.
   سيّدنا يسوع المسيح يقول في إنجيله إن للحياة الدنيا نهاية وقيامة، وشربل بعيني يقول أن لا نهاية لهذه. فبربكم من نصدّق؟
   أنترك كلام اللـه تعالى، لنسمع كلمات شاعر تصوّر له مخيّلته ما يشاء؟!
   أرجو أن تنتبهوا لما قد تنطوي عليه مثل هذه القصائد من معانٍ وأفكار، تساعد على طرد الإيمان من قلوب شبابنا الطالع الضائع الأعمى، الذي ينقاد وراء كلّ شيء جديد. كما نرجو من الشاعر شربل بعيني أن يتجنّب مثل هذه المواضيع، وهذه القصائد، لأنها تسيء إلى سمعته وأدبه، وتدعونا إلى الشكّ بمسيحيّته".
   صحيح أن هناك من انبرى للدفاع عن القصيدة، مثل رئيس حزب الطبيعيين حبيب تليجة، ولكن نقد هذا الكاهن أفرحني كثيراً، رغم تهجمه اللامنطقي، لأنني شعرت، وأنا ما زلت يافعاً، أن شعري بدأ يؤثّر في الناس.
   بعد سفري عام 1971 الى أستراليا، تركت كتابة هذا النوع من الشعر، إلى أن طلب مني رئيس تحرير مجلة "ديالا" الصادرة في سيدني قصيدة "غير شكل" حسب تعبيره، فزودته بقصيدة "حبيتك يا بنت بلادي"، فما كان من الاستاذ ميشال حديّد إلا أن كتب في العدد الرابع، الصادر في 2 ايلول 1987:
الشاعر شربل بعيني لا يزال مسكوناً بهاجس التجديد والتغيير والتمرد على الاوزان والالحان الشعرية التقليدية.
   وقصيدته الجديدة "حبيتك يا بنت بلادي" هي احدى بنات هاجسه التجديدي، واحدى قنبلاته التمردية:
ـ1ـ
حابِبْ إِتْغَزَّلْ بِعْيُونِكْ
هَـ الأَصْفَى مْنِ الْخَمْرَه
وْأَنْقَى مْنِ الإِلْمَاس الْـ بَعْدُو
بْمَنْجَمْ طهْرُو نَاطِرْ..
حَابِبْ إِرْسِمْلِكْ نَهْدَاتِي
بْرِيشِه مَسْحُورَه
وْعَلِّقْهَا عَ الطُّرْقَاتْ
اللِّي مَا بْتِتْعَبْ مِنْ إِجْرَيْكِي..
ـ2ـ
حَابِبْ إِحْرِقْلِك بَخُّورِي
وْشِكّ بْشَعْرِك وَرْدِة عُمْرِي
الْمَقْطُوفِه مْنِ كْرُوم الْخَيْر
الْـ كَانِتْ تِتْدَلَّى حْوَالَيْكِي..
ـ3ـ
يَا أَجْمَلْ مِنْ وَاحَه
وْأَرْطَبْ مِنْ نقْطَات الْمَيّ
وْأَرْحَمْ مِنْ فَيَّات النَّخْلِه بْصَحْرَا
مَحْسُودِه مْن النُّور السَّاطِعْ مِنْ عِينَيْكِي..
ـ4ـ
زِعْلِت مِنِّي طْيُور الْغَابِه
وَقت الْـ سِمْعِتْنِي عَمْ غَنِّي
لإِسْمِكْ غِنِّيِّه شَعْبِيِّه
وْمَا قِدْرِتْ تِحْفَظْ كِلْمَاتَا
وْتِسْكِبْهَا كِلاَّ بْدِينَيْكِي..
   قد ينكر البعض على شربل هذا المنحى الشعري التجديدي، كما أنكر القدماء على جبران خليل جبران، ونزار قبّاني، وانسي الحاج، ويوسف الخال، وأدونيس، وغيرهم، لغاتهم الشعرية والادبية الجديدة، واكمال القصيدة عندهم وأوزانها. لكن القديم سقط امام تيارات التجديد التي لا تزال تتجدد باستمرار منذ كانت الدادائية والسريالية اللتين لعبتا دوراً تحريضياً مهماً على "تهوئة" الأدب واللغة وانعاشهما، واطلاقهما عبر شبابيك اللاوعي.
   والحق يقال ان الحركة الشعرية التجديدية كانت الأقدر على احتواء مخاض هذا الزمن، والاكثر تعبيراً عن همومه، وقضاياه، وهواجسه، وقفزاته الهائلة في مختلف مجالات المعرفة والعلم والتكنولوجيا. كانت ضميره ووجدانه في جميع تقلباته وتحولاته واغراءاته، ولا بأس اذا خرجنا نحن في المهجر، قليلاً على الموسيقى الخارجية "موسيقى اوزان الخليل" التي يناهز عمرها الألفي سنة، باعتبار انها لم تكن سوى امتداد للموسيقى في العصر الجاهلي.
   أما الشاعر فؤاد نعمان الخوري فقد أعجبته قصيدة "ذكريات" فكتب في جريدة التلغراف، العدد 1999، 27/11/1989:
   لا شك أن الجمهور الأدبي، في المغتربات البعيدة، يدفع الشاعر دفعاً في متاهة الالقاء المنبري، "وكلنا بالهو سوا"، لكن المنبرية لا تغني عن قصيدة العين المحبوكة خيطاً خيطاً، نقطة نقطة، ومن هذه المحبوكات قصيدة "ذكريات"، التي اتخذتها موضوعاً لهذه المقالة.
ماذا في "ذكريات"؟
1ـ القصيدة:
ـ1ـ
كل الغنيّات الحلوه الغنيّتيها
حفظوها الناس
وكتبوها كلاّ بإسمك
ـ2ـ
كل الطلاّت المضويّه الطليتيها
منتذكرها طله وطله
كلما لمحنا صدفه.. رسمك.
ـ3ـ
زهرات الغربه سقيتيها
من ينبوع الطهر الجاري
بمرجة جسمك
ـ4ـ
ايدين الناس مسكتيها
ووصلتيهن متل اليقظه
للأرض اللي عم تعطيها
إسمك،
رسمك،
جسمك،
دمّك.
2ـ البناء الكاتدرائي
   تمثّل قصيدة "ذكريات" عمارة هندسية متكاملة، مؤلفة من أربعة أعمدة، تتوجها قبة عالية، مثل كاتدرائية تشكل أعمدتها أساساً لقبّتها، وتعطي قبّتها، حاملة الجرس، معنى احتفالياً للأعمدة الباردة من خلال علاقة جدلية رائعة.
   ومما يزيد في الجو الطقسي، استعمال بعض المفردات المسلوخة من شبية عتيقة، مثل "ينبوع الطهر" او "الطلات المضويه".. وتؤدي كلمة "الناس" المستعملة مرتين، في هذا النص القصير اضاءة اضافية على شخصية صاحبة القصيدة. انها كما يبدو مغنيّة "الغنيّات الحلوة"، تواكب الأضواء طلّتها "الطلاّت المضويه"، تمتاز بالطهر "ينبوع الطهر"، مرشدة حنونة "ايدين الناس مسكتيها". هذه الصفات الاربع: الغناء والضوء والطهر والارشاد، قد لا تتوافر في امرأة من لحم ودم، وأغلب الظن انها المرأة ـ القصيدة. فالقصيدة هي مغنيّة بموسيقاها، تطل من بين أضواء الحلم، تسقي الغربة ماء طهرها، تقود خطانا الى الارض.. و"الارض" في الغربة لا تعود أرضاً بالمعنى الحصري للكلمة. قل هي التراب والاهل والذكريات، كل ما في الوطن من لحظات مشرقة.
   وتأتي المفاجأة الكبيرة في الكلمة الأخيرة "دمّك"!! فإذا كان "اسمك" مستعاراً من المقطع الأول، "ورسمك" من الثاني، "وجسمك" من الثالث، فإن كلمة "دمّك" هي جرس القبّة، لأنها تأتي من خارج البناء نهاية مأساوية للمسيرة الاحتفالية السعيدة. هكذا يسفح الشاعر دم القصيدة عندما يحبسها في ألفاظ جامدة تبقى عاجزة عن الاحاطة بكل ما في نفس كاتبها، لكن دمها، رمز خيانتها، يصبح مكملاً ل "ينبوع الطهر"، فإذا هو رمز قيامتها من السقوط في وحل اللغة ـ المصطلح الاجتماعي.
3ـ الشاعر والمطلق
   المطلق حبيب الشاعر، قبلته، محط عينيه المتعبتين.. لذلك تراه يكره النسبية، يرفض التسويات، يمقت الحلول الوسط، وقد يكون اتهام الشعراء بالجنون يعود الى تمردهم على الواقع، والسلطات، والأعراف، في كل زمان ومكان، فيغدون بنظر المجتمع شاذين، رافضين، "يتبعهم الغاوون".
   وفي قصيدة "ذكريات" يطل "المطلق" بأحلى صورة، من خلال كلمة "كل": كل الغنيّات، كتبوها كلاّ، كل الطلاّت.. ويأتي استعمال صيغة الجمع مكملاً لكلمة "كل" في "الغنيّات، الطلاّت، الزهرات، الناس" الخ. ويتذكّر الشاعر طلاّتها، طلّة طلّة، فلا تفوته واحدة، وكأنه كان مرابطاً على مفارق المسافات كلها، يسجّل طلاتها المضيئة.
   ولا يتعب الشاعر من عطاء، كما لا تتعب قصيدته التي تعطي اسمها ورسمها وجسمها ودمها و... ثلاث نقا طفي آخر القصيدة، تفضح نهم الشاعر الى العطاء من دون حدود، وكأن ما أعطاه "اسم ورسم وجسم ودم" لا يكفي. يا ألله ما هذا الكرم؟ ما هذا الجنون؟!.
موسيقى الكلمات:
   رغم استهتار البعيني بعفويته وتلقائيته، يبرز في قصيدته تناغم موسيقي بين كلماتها يضفي على الوزن رنة اضافية. فالكلمات الأربع "اسمك، رسمك، جسمك، دمك" تشترك في حرفين موسيقيين، السين والميم، قد يكونان أحلى أبجديتنا..  وفي السطر الثالث "كتبوها كلاّ بإسمك" تتردد "الكاف" ثلاث مرات، آتية من أعماق الحلق، في لعبة ايحائية ذكية، وفي "الجاري بمرجة جسمك" يلعب حرف "الجيم" دوراً إغرائياً مفضوحاً، رغم "ينبوع الطهر" لما لهذا الحرف من قدرة على وصف الجسم اللدن كالعجين.
وتشكل القافية "الكاف الساكنة" نهاية منطقية للحسرة المنتشرة في أرجاء القصيدة، وكأن الشاعر يتعمّد ابقاء فمه مفتوحاً في النهاية، دهشة او احتجاجاً.
   وتبرز في القصيدة اشكالية الكتابة بالعامية: هل نكتب "ذكريات" أم زكريات" كما نلفظها؟
   هل نكتب "الغنيتيها" أم "ل غنيتيها" اختصاراً وتسهيلاً للقراءة؟
   هل نكتب "كتبوها" أم "كتبوا"؟ ولماذا كتب الشاعر "كلاّ" وليس كلّها؟
   أسئلة كثيرة تبقى بحاجة الى جواب، يشكّل أساساً لقواعد نموذجية للكتابة بالعامية.”
   ورغم الترحيب بالتجديد الشعري العامي الذي حاولته قبل غيري بسنوات وسنوات، إلا أنني لم أنشر سوى مجموعة واحدة من هذا النوع، هي التي بين أيديكم، لأن المجتمع الاغترابي كان يفرض علي أن أكون أكثر وضوحاً كي أصل اليه شعرياً، خاصة وأن اللغة الانكليزية قد سرقته من لغته الأم، ولم يبقَ علي سوى التقرّب منه بقصائد يقدر أن يستوعبها ويتفاعل معها دون وسيط أو محلل.
  صحيح أنني لم أتخلَّ في بعض القصائد عن الوزن الموسيقي والقافية، ولكنني استعملتهما بطريقة مختلفة تماماً عما كان سائداً في أواسط ستينيات القرن الماضي في معظم ما نشر من قصائد بالعامية اللبنانية يومذاك. 
  بقي أن أذكر أن المربية بولا عبد الأحد قد ترجمت قصائد هذه المجموعة الى الانكليزية ونشرت في كتاب عام 2005، أي قبل صدور الطبعة العربية بخمس سنوات 2010. أرجو أن تعجبكم.
**